الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {الله نُورُ السماوات والأرض}.أتْبع منةَ الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحقِّ للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته.والذي يظهر لي أن جملة: {الله نور السموات والأرض} معترضة بين الجملة التي قبلها وبين جملة: {مثل نوره كمشكاة} وأن جملة: {مثل نوره كمشكاة} بيان لجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة: {الله نور السماوات والأرض} تمهيدًا لجملة: {مثَل نوره كمشكاة}.ومناسبة موقع جملة: {مثل نوره كمشكاة} بعد جملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} أن آيات القرآن نور قال تعالى: {وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا} في سورة النساء (174)، وقال: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} في سورة العقود (15)، فكان قوله: {الله نور السماوات والأرض} كلمة جامعة لمعان جمّة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام.وموقع الجملة عجيب من عدة جهات، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان.والنور: حقيقته الإشراق والضياء.وهو اسم جامد لمعنى، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلًا لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو: استنوق الجمل، فإن فعل أنار مثل فعل أفلس، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين.وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف.فمعنى: {الله نور السماوات والأرض} أن منه ظهورهما.والنور هنا صالح لعدة معان تشبّه بالنور.وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة.فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهرًا أو عرضًا.وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة بمشكاة الأنوار: النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور.وجعل اسمه تعالى النور دالًا على التنزه عن العدم وعلى إخراج الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برَّجان الإشبيلي في شرح الأسماء الحسنى فقال: إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال. اهـ.أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائمًا لما قبل الآية من قوله: {لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] وما بعدها من قوله: {مثل نوره كمشكاة} إلى قوله: {يهدي الله لنوره من يشاء} وقوله عقب ذلك: {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} [النور: 40].وقد أشرنا آنفًا إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مرادًا من وصفه تعالى بالنور.وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الاطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن» فإن عطف «من فيهن» يؤذن بأن المراد ب «السماوات والأرض» ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى: {كانتا رتقًا ففتقناهما} [الأنبياء: 30].والمعنى: أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما.والتزم حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور.وأشهرها ثلاثة: البرهان العلمي، والكمال النفساني، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم.وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه هياكل النور بقوله: يا قيوم أيِّدنا بالنور وثبتنا على النور واحشرنا إلى النور كما بينه جلال الدين الدواني في شرحه.ونلحق بهذه المعاني اطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي.وقد ورد في آيات من القرآن إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور} [المائدة: 44] وقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس} [الأنعام: 91] فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما.وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفًا لله تعالى لا حقيقة ولا مجازًا فتعين أن لفظ نور في قوله: {مثل نوره كمشكاة} غير المراد بلفظ نور في قوله: {الله نور السماوات والأرض} فالنور لفظ مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر.فأحسن ما يفسر به قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالَمَيْن العلوي والسفلي، وهو من استعمال المشترك في معانيه.ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة.فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير.وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم.{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح في زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ}.يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] إذ كان ينطوي في معنى {آيات} ووصفها ب {مبينات} ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها، فالجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا.ووقعت جملة: {الله نور السماوات والأرض} معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيدًا لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة.وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة: {الله نور السماوات والأرض} فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فُصلت فلم تعطف.والضمير في قوله: {نوره} عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله.والمراد ب {نوره} كتابه أو الدين الذي اختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين.فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة.وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها.ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف.وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى في القمر.والمَثَل: تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة.فمعنى {مثل نوره}: شَبيهُ هدِيه حالُ مشكاة.إلى آخره، فلا حاجة إلى تقدير: كنور مشكاة، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها.وقوله: {كمشكاة فيها مصباح} المقصود كمصباح في مشكاة.وإنما قُدم {المشكاة} في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدىء بقوله: {كمشكاة} والمنتهي بقوله: {ولو لم تمسسه نار} فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة {مشكاة} دون لفظ {مصباح} لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ {مصباح} بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة المتخيلة حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاةً ثم يبدو له مصباح في زجاجة.
|